فصل: (سورة الواقعة: الآيات 75- 87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

1- في الآيات الآنفة الذكر فن صحة الأقسام وقد سبق ذكره في هذا الكتاب وأنه عبارة عن استيفاء المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد عدل عن لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل إذ قال: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما} وكذلك جاء لفظ الاعتداد بالماء حيث قال: {لو نشاء جعلناه أجاجا} بلفظ الجعل عند ذكر الحرمان وما هو في معناه وجاء العطاء بلفظ الزرع في الحرث وفي الماء بلفظ الإنزال، فإن قيل: لم أكد الفعل باللام في قوله في الزرع: {لو نشاء لجعلناه حطاما} ولم يؤكده في الماء حيث قال: {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا}؟ قلت: لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما فما يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزراع ولهذا قال سبحانه: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء وأن جفافه من حرارة الشمس وعدم السقي أو تواتر مرور الإعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك كله على الحقيقة وأنه قادر على جعله لو شاء حطاما في حالة نموّه وزمن شبيبته ونضارته فلما كان هذا التوهم محتملا أوجبت البلاغة توكيد فعل الجعل فيه وإسناده لزارعه على الحقيقة ومنشئه لرفع هذا التوهم، ولما كان إنزال الماء من السماء محالا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن أحدا من جميع الخلق قادر عليه لم يحتج إلى توكيد الفعل في جعله أجاجا فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدا ينزل الماء من السماء أجاجا ولا عذبا الذي هو أسهل من الأول وأهون.
وعبارة الزمخشري في هذا الصدد هذا نصها: فإن قلت لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما ونزعت منه هاهنا؟
قلت: إن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيهما أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السامع، ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول خير لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره وناهيك بقول أوس:
حتى إذا الكلّاب قال لها ** كاليوم مطلوبا ولا طلبا

أقول وفي بيت أوس بن حجر أو للنمر بن تولب حذف لا يستقيم إلا به أي قال لها لم أنظر كاليوم مطلوبا والضمير لكلبة الصيد والكلّاب معلّم الكلاب أو الصياد أي ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلها في غيره بل أعظم، ثم يتابع الزمخشري: ويجوز أن يقال إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا ** سقوا أضيافهم شبما زلالا

وسقي بعض العرب فقال أنا لا أشرب إلا على ثميلة، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب. والثميلة: اللبن الخالص.
ونعود إلى بيت أبي العلاء فنقول هو من قصيدة يمدح بها سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقي الضيوف الماء قبل ذكر الطعام والمخض اللبن المنزوع زبده فهو بمعنى الممخوض ويروي محضا بالحاء المهملة أي خالصا حلوا أو حامضا والشبم البارد والزلال العذب.
هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد نقول إن معنى البيت إذا عجّلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام عجّلوا هم بالطعام لاستعدادهم للضيفان فيحتاجون لشرب الماء فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.
2- وفي هذه الآيات أيضا فن التسهيم وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو بالعكس، فقوله: {أفرأيتم ما تحرثون} إلى قوله: {أفرأيتم النار التي تورون} تقتضي أوائل هذه الآيات أن أواخرها اقتضاء لفظيا ومعنويا كما ائتلفت الألفاظ فيها بمعانيها المجاورة الملائم بالملائم والمناسب بالمناسب لأن ذكر الحرث يلائم ذكر الزرع والاعتداد بكونه سبحانه لم يجعله حطاما ملائم لحصول التفكّه به وعلى هذه الآية يقاس نظم أختها.

.[سورة الواقعة: الآيات 75- 87]:

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)}.

.اللغة:

{بِمَواقِعِ النُّجُومِ} بمساقطها ومغاربها وقيل بمنازلها وقيل بانكدارها وانتثارها وسيأتي مزيد تفسير لها في باب الإعراب.
{مُدْهِنُونَ} وقال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ. وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والنفاق وأصله اللين وأن يضمر خلاف ما يظهر.

.الإعراب:

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} الفاء استئنافية ولا زائدة والمعنى فاقسم ولا تزاد في القسم فيقال لا واللّه ولا أفعل قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ** لا يدعي القوم أني أفر

والمعنى وأبيك وإنما زيدت للتأكيد وتقوية الكلام. وقيل نافية. والمنفي محذوف وهو كلام الكافر والجاحد تقديره فلا صحة لما يقول الكافر ثم ابتدأ فقال أقسم، وقيل هي لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي أنا أقسم كقولك لزيد منطلق ثم حذف المبتدأ فاتصلت اللام بخبره تقديره فلأقسم باللام فقط.
وقال أبو حيان: والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف كقوله (أعوذ باللّه من العقارب).
وسيرد مزيد من هذا البحث في كتابنا، و{أقسم} فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا و{بمواقع النجوم} متعلقان بأقسم.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} الواو اعتراضية وإن واسمها واللام المزحلقة وقسم خبرها و{لو} شرطية و{تعلمون} فعل مضارع مرفوع و{عظيم} صفة قسم وجملة {لو تعلمون} معترضة بين الموصوف وصفته وجملة {إنه لقسم لو تعلمون عظيم} لا محل لها لأنها معترضة بين القسم وجوابه فهما اعتراضان متعاقبان وجواب {لو} محذوف والتقدير لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم.
{إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ} الجملة جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام المزحلقة وقرآن خبر {إنه} و{كريم} صفة أولى لقرآن.
{فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} {في كتاب} صفة ثانية لقرآن و{مكنون} صفة لكتاب.
{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} {لا} نافية و{يمسّه} فعل مضارع ومفعوله و{إلا} أداة حصر و{المطهرون} فاعل {يمسّه} والجملة صفة ثالثة لقرآن، وقيل {لا} ناهية و{يمسّه} فعل مضارع مجزوم بلا ولكنه لما أدغم حرّك آخره لأجل الإدغام وكانت الحركة ضمة اتباعا الهاء ولا داعي لهذا التكلف فالأولى ما ذكرناه وهو الأشبه بتناسق الصفات ويؤيد ما ذهبنا إليه قراءة عبد اللّه بن مسعود {ما يمسّه} بما النافية وفي مسّه كناية عن لازمه وهي نفي الاطّلاع عليه وعلى ما فيه.
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} صفة رابعة و{من رب العالمين} نعت لتنزيل.
{أَفَبِهذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والفاء عاطفة وبهذا متعلقان بمدهنون و{الحديث} بدل من اسم الإشارة و{أنتم} مبتدأ و{مدهنون} خبر.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} الواو حرف عطف و{تجعلون رزقكم} فعل مضارع والواو فاعل و{رزقكم} مفعول {تجعلون} الأول وأن واسمها وجملة {تكذبون} خبرها وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني ولابدّ من تقدير مضاف أي شكر رزقكم.
{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} الفاء استئنافية ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ولا يقع بعدها الفعل فيكون التقدير فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم فالعامل في {إذا} هو الفعل الواقع بعد لولا وهو {ترجعونها}، و{بلغت} فعل ماض وفاعله مستتر تقديره النفس أي إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت.
{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} الواو حالية و{أنتم} مبتدأ وحين ظرف أضيف إلى مثله وهو إذ والتنوين فيه عوض عن الجملة المضافة إليها أي إذا بلغت النفس الحلقوم وجملة {تنظرون} خبر {أنتم} وجملة {وأنتم حينئذ تنظرون} حال من فاعل {بلغت}.
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ} الواو حالية و{نحن} مبتدأ و{أقرب} خبر و{إليه} و{منكم} متعلقان بأقرب والواو عاطفة و{لكن} مخفّفة مهملة للاستدراك و{لا} نافية و{تبصرون} فعل مضارع مرفوع من البصيرة أي العلم.
{فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض مؤكد للولا الأولى و{إن} شرطية و{كنتم} كان واسمها و{غير مدينين} خبر أي غير مجزيين بأن تبعثوا أي غير مبعوثين و{ترجعونها} هو العامل في {إذا} فقدم الظرف على عامله المتعلق به الشرطان وهما {إن كنتم غير مدينين} و{إن كنتم غير صادقين} ومعنى تعلقهما به أنه جزاء لهما أي لكلّ منهم ففي الكلام قلب والمعنى هلّا ترجعونها إن نفيتم البعث صادقين في نفيه. وملخص الكلام: إن صدقتم في نفي البعث فردّوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت فينتفي البعث.

.البلاغة:

الاستعارة المكنية في قوله: {فإذا بلغت الحلقوم} كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة.

.[سورة الواقعة: الآيات 88- 96].

{فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}.

.اللغة:

{فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ} الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح والريحان الرحمة والرزق كما في المختار وفي القاموس: والريحان نبت طيب الرائحة أو كل نبت كذلك أو أطرافه أو ورقه والولد والرزق.
{تَصْلِيَةُ} احتراق.